فصل: الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مِقْدَارِ مَا يُوضَعُ مِنْهُ فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.النَّظَرُ الثَّانِي فِي الشَّرْطِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ:

وَأَمَّا شَرْطُ الْعَيْبِ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ البيع بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا قَبْلَ أَمَدِ التَّبَايُعِ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ فِي الْعُهْدَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا، فَيَجِبُ هَاهُنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي الْعُهْدَةِ حكم بيع العهدة، فَنَقُولُ: انْفَرَدَ مَالِكٌ بِالْقَوْلِ بِالْعُهْدَةِ دُونَ سَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَسَلَفُهُ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ، وَمَعْنَى الْعُهْدَةِ: أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ حَدَثَ فِيهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ، وَهِيَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا عُهْدَتَانِ: عُهْدَةُ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ في البيع: وَذَلِكَ مِنْ جَمْعِ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ فِيهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي. وَعُهْدَةُ السَّنَةِ في البيع: وَهِيَ مِنَ الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ: الْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجُنُونُ، فَمَا حَدَثَ فِي السَّنَةِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِالْمَبِيعِ فَهُوَ مِنَ الْبَائِعِ، وَمَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْعُيُوبِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْأَصْلِ. وَعُهْدَةُ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْجُمْلَةِ بِمَنْزِلَةِ أَيَّامِ الْخِيَارِ، وَأَيَّامِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالنَّفَقَةُ فِيهَا وَالضَّمَانُ مِنَ الْبَائِعِ عهدة الثلاثة أيام.
وَأَمَّا عُهْدَةُ السَّنَةِ: فَالنَّفَقَةُ فِيهَا وَالضَّمَانُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَّا مِنَ الْأَدْوَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذِهِ الْعُهْدَةُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الرَّقِيقِ، وَهِيَ أَيْضًا وَاقِعَةٌ فِي أَصْنَافِ الْبُيُوعِ فِي كُلِّ مَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْمُمَاكَسَةُ وَالْمُحَاكَرَةُ، وَكَانَ بَيْعًا لَا فِي الذِّمَّةِ، هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَعُهْدَةُ السَّنَةِ تُحْسَبُ عِنْدَهُ بَعْدَ عُهْدَةِ الثَّلَاثِ فِي الْأَشْهَرِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَزَمَانُ الْمُوَاضَعَةِ يَتَدَاخَلُ مَعَ عُهْدَةِ الثَّلَاثِ إِنْ كَانَ زَمَانُ الْمُوَاضَعَةِ أَطْوَلَ مِنْ عُهْدَةِ الثَّلَاثِ. وَعُهْدَةُ السَّنَةِ لَا تَتَدَاخَلُ مَعَ عُهْدَةِ الِاسْتِبْرَاءِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ. وَقَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ: لَا يَتَدَاخَلُ مِنْهَا عُهْدَةٌ مَعَ ثَانِيَةٍ، فَعُهْدَةُ الِاسْتِبْرَاءِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُهْدَةُ الثَّلَاثِ، ثُمَّ عُهْدَةُ السَّنَةِ. وَاخْتَلَفَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ: هَلْ تَلْزَمُ الْعُهْدَةُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا؟
فَرُوِيَ عَنْهُ الْوَجْهَانِ، فَإِذَا قِيلَ لَا يَلْزَمُ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلَدِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ حُمِلُوا عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَمْ لَا؟
فِيهِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يَلْزَمُ النَّقْدَ فِي عُهْدَةِ الثَّلَاثِ، وَإِنِ اشْتُرِطَ، وَيَلْزَمُ فِي عُهْدَةِ السَّنَةِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ فِيهَا لِلْبَائِعِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْخِيَارِ لِتَرَدُّدِ النَّقْدِ فِيهَا بَيْنَ السَّلَفِ، وَالْبَيْعِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَشْهُورَاتُ أَحْكَامِ الْعُهْدَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهِيَ كُلُّهَا فُرُوعٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْعُهْدَةِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَقْرِيرِ حُجَجِ الْمُثْبِتِينَ لَهَا وَالْمُبْطِلِينَ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْعُهْدَةِ، وَحُجَّتُهُ الَّتِي عَوَّلَ عَلَيْهَا: فَهِيَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّهُمُ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِي صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ»، وَرُوِيَ أَيْضًا: «لَا عُهْدَةَ بَعْدَ أَرْبَعٍ»، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْفَزَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْلُولٌ، فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، وَإِنْ كَانَ التِّرْمِذِيُّ قَدْ صَحَّحَهُ.
وَأَمَّا سَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: فَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمْ فِي الْعُهْدَةِ أَثَرٌ، وَرَأَوْا أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ مُخَالِفَةٌ لِلْأُصُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُصِيبَةٍ تَنْزِلُ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَهِيَ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَالتَّخْصِيصُ لِمِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْمُتَقَرِّرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَمَاعٍ ثَابِتٍ، وَلِهَذَا ضُعِّفَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنْ يُقْضَى بِهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عُرْفًا فِي الْبَلَدِ، أَوْ يُشْتَرَطَ، وَبِخَاصَّةٍ عُهْدَةُ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ عُهْدَةِ السَّنَةِ، وَالثَّلَاثِ، فَقَالَ: مَا عَلِمْتُ فِيهَا أَمْرًا سَالِفًا.
وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ الْقَوْلُ فِي تَمْيِيزِ الْعُيُوبِ الَّتِي تُوجِبُ حُكْمًا مِنَ الَّتِي لَا تُوجِبُهُ، وَتَقَرَّرَ الشَّرْطُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ حَادِثًا قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ فِي الْعُهْدَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْعُهْدَةَ، فَلْنَصِرْ إِلَى مَا بَقِيَ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْعَيْبِ الْمُوجِبِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ لَمْ يَتَغَيَّرْ:

وَإِذَا وُجِدَتِ الْعُيُوبُ: فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْمَبِيعُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي عَقَارٍ، أَوْ عَرُوضٍ، أَوْ فِي حَيَوَانٍ. فَإِنْ كَانَ فِي حَيَوَانٍ: فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، أَوْ يُمْسِكَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي عَقَارٍ: فَمَالِكٌ يُفَرِّقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ، وَالْكَثِيرِ في المبيع، فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ، وَوَجَبَتْ قِيمَةُ الْعَيْبِ، وَهُوَ الْأَرْشُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَجَبَ الرَّدُّ، هَذَا هُوَ الْمَوْجُودُ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْبَغْدَادِيُّونَ هَذَا التَّفْصِيلَ.
وَأَمَّا الْعَرُوضُ: فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُصُولِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَخْتَارُهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ رِزْقٍ شَيْخُ جَدِّي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ الْأُصُولِ، وَالْعُرُوضِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَلْزَمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ، وَالْقَلِيلِ فِي الْأُصُولِ (أَعْنِي: أَنْ يُفَرِّقَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْعُرُوضِ)، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا حَطَّ الْقِيمَةَ أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَوِّلِ الْبَغْدَادِيُّونَ فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى التَّفْرِقَةِ الَّتِي قَلَّتْ فِي الْأُصُولِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي الْحَيَوَانِ إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَيْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.

.فَصْلٌ: [أَخْذُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَيْبِ مِنَ الْبَائِعِ]:

وَإِذْ قَدْ قُلْنَا إِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، أَوْ يُمْسِكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُمْسِكَ الْمُشْتَرِي سِلْعَتَهُ وَيُعْطِيَهُ الْبَائِعُ قِيمَةَ الْعَيْبِ، فَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ، إِلَّا ابْنَ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خِيَارٌ فِي مَالٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ كَخِيَارِ الشُّفْعَةِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي، فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ (أَعْنِي: أَنْ يَرُدَّ وَيَرْجِعَ بِالثَّمَنِ، وَلَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى تَرْكِهِ)، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ خِيَارِ الشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ شَاهِدٌ لَنَا، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا تَرْكَهُ إِلَى عِوَضٍ يَأْخُذُهُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَفِي هَذَا الْبَابِ فَرْعَانِ مَشْهُورَانِ مِنْ قِبَلِ التَّبْعِيضِ:

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [ظُهُورُ الْعَيْبِ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ]:

أَحَدُهُمَا: هَلْ إِذَا اشْتَرَى الْمُشْتَرِي أَنْوَاعًا مِنَ الْمَبِيعَاتِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَوَجَدَ أَحَدَهَا مَعِيبًا، فَهَلْ يَرْجِعُ بِالْجَمِيعِ، أَوْ بِالَّذِي وَجَدَ فِيهِ الْعَيْبَ؟
فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، أَوْ يُمْسِكَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمَّى مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْقِيمَةِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِعَيْنِهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا لَمْ يُسَمِّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَرُدُّ الْمَعِيبَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ مَعًا. وَفَرَّقَ مَالِكٌ، فَقَالَ: يُنْظَرُ فِي الْمَعِيبِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ وَالْمَقْصُودَ بِالشِّرَاءِ رَدَّ الْجَمِيعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهَ الصَّفْقَةِ رَدَّهُ بِقِيمَتِهِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ تَفْرِيقًا آخَرَ، وَقَالَ: إِنْ وُجِدَ الْعَيْبُ قَبْلَ الْقَبْضِ رَدَّ الْجَمِيعَ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. فَحُجَّةُ مَنْ مَنَعَ التَّبْعِيضَ فِي الرَّدِّ: أَنَّ الْمَرْدُودَ يَرْجِعُ فِيهِ بِقِيمَةٍ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَبْقَى إِنَّمَا يَبْقَى بِقِيمَةٍ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَيْهَا. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَوْ بُعِّضَتِ السِّلْعَةُ لَمْ يَشْتَرِ الْبَعْضَ بِالْقِيمَةِ الَّتِي أُقِيمَ بِهَا.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ رَأَى الرَّدَّ فِي الْبَعْضِ الْمَعِيبِ وَلَا بُدَّ: فَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، فَأُقِيمَ فِيهِ التَّقْوِيمُ وَالتَّقْدِيرُ مَقَامَ الرِّضَا قِيَاسًا عَلَى أَنَّ مَا فَاتَ فِي الْبَيْعِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْقِيمَةُ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ مَا هُوَ وَجْهُ الصَّفْقَةِ، أَوْ غَيْرُ وَجْهِهَا؟
فَاسْتِحْسَانٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَعِيبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فِي الْمَبِيعِ فَلَيْسَ كَبِيرَ ضَرَرٍ فِي أَنْ لَا يُوَافِقَ الثَّمَنَ الَّذِي أُقِيمَ بِهِ أَرَادَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ.
وَأَمَّا عِنْدَ مَا يَكُونُ مَقْصُودًا، أَوْ جُلَّ الْمَبِيعِ فَيَعْظُمُ الضَّرَرُ فِي ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ عَنْهُ هَلْ يُعْتَبَرُ تَأْثِيرُ الْعَيْبِ فِي قِيمَةِ الْجَمِيعِ أَوْ فِي قِيمَةِ الْمَعِيبِ خَاصَّةً؟
وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ أَنْ يَقْبِضَ أَوْ لَا يَقْبِضَ، فَإِنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ تَمَامِ الْبَيْعِ، وَمَا لَمْ يُقْبَضِ الْمَبِيعُ فَضَمَانُهُ عِنْدَهُ مِنَ الْبَائِعِ، وَحُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [ظُهُورُ الْعَيْبِ فِي صَفْقَةِ اثْنَيْنِ يَرْفُضُ أَحَدُهُمَا الرَّدَّ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي رَجُلَيْنِ يَبْتَاعَانِ شَيْئًا وَاحِدًا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِدَانِ بِهِ عَيْبًا فَيُرِيدُ أَحَدُهُمَا الرُّجُوعَ، وَيَأْبَى الْآخَرُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لِمَنْ أَرَادَ الرَّدَّ أَنْ يَرُدَّ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ. فَمَنْ أَوْجَبَ الرَّدَّ شَبَّهَهُ بِالصَّفْقَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ، لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا عَاقِدَانِ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ شَبَّهَهُ بِالصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي فِيهَا تَبْعِيضَ رَدِّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ أَصْنَافِ التَّغَيُّرَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَحُكْمِهَا:

وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ إِلَّا بَعْدَ تَغَيُّرِ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ: فَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِحَسَبِ التَّغْيِيرِ؛ فَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ بِمَوْتٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ عِتْقٍ: فَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ فَوْتٌ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا يَرْجِعُ فِي الْمَوْتِ وَالْعِتْقِ بِشَيْءٍ. وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ حُكْمُ مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً فَأَوْلَدَهَا. وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا تَغَيُّرُهُ فِي الْبَيْعِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِذَا بَاعَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَهُ فِي الْبَيْعِ تَفْصِيلٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ بَائِعِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، وَلَا يَخْلُو أَيْضًا أَنْ يَبِيعَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ بَائِعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِالْعَيْبِ. وَإِنْ بَاعَهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ مُدَلِّسًا (أَيْ عَالِمًا بِالْعَيْبِ) لَمْ يَرْجِعِ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا رَجَعَ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي فِي الثَّمَنِ وَالثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعَانِ وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إِلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ. فَإِنْ بَاعَهُ مِنْ عِنْدِ بَائِعِهِ مِنْهُ: فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا رُجُوعَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، أَوْ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ، هَذَا إِذَا بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهُ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ إِذَا بَاعَهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، أَوْ أَكْثَرَ، وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ. وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ إِذَا فَاتَ بِالْبَيْعِ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَبَرَ تَأْثِيرٌ بِالْعَيْبِ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ، وَلِذَلِكَ مَتَى قَامَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِعَيْبٍ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِلَا خِلَافٍ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: تَشْبِيهُهُ الْبَيْعَ بِالْعِتْقِ. وَوَجْهُ قَوْلِ عُثْمَانَ، وَأَشْهَبَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ الْمَبِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا الْإِمْسَاكُ، أَوِ الرَّدُّ لِلْجَمِيعِ، فَإِذَا بَاعَهُ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضَ ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا مَا نَقَصَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ، لِأَنَّ هِبَتَهُ، أَوْ صَدَقَتَهُ تَفْوِيتٌ لِلْمِلْكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَرِضًا مِنْهُ بِذَلِكَ طَلَبًا لِلْأَجْرِ، فَيَكُونُ رِضَاهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْعَيْبِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِذَلِكَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَاسَ الْهِبَةَ عَلَى الْعِتْقِ، وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا فَاتَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ الرَّدُّ، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ يَجِبُ لَهُ إِلَّا الرَّدُّ، أَوِ الْإِمْسَاكُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَيْبِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ شَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ فَقَطْ.
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَبُهَا الِاسْتِرْجَاعُ كَالرَّهْنِ، وَالْإِجَازَةِ هل يدخلها خيار العيب: فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ الْمَبِيعُ. وَقَالَ أَشْهَبُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ زَمَانُ خُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ زَمَانًا بَعِيدًا كَانَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ. وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْلَى، وَالْهِبَةُ لِلثَّوَابِ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْبَيْعِ فِي أَنَّهَا فَوْتٌ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْعُقُودِ الْحَادِثَةِ فِيهَا وَأَحْكَامُهَا.
بَابٌ فِي طَرْءِ النُّقْصَانِ.
وَأَمَّا إِنْ طَرَأَ عَلَى الْمَبِيعِ نَقْصٌ حكم الرد بالعيب: فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ فِي قِيمَتِهِ أَوْ فِي الْبَدَنِ أَوْ فِي النَّفْسِ. فَأَمَّا نُقْصَانُ الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَسْوَاقِ: فَغَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِإِجْمَاعٍ.
وَأَمَّا النُّقْصَانُ الْحَادِثُ فِي الْبَدَنِ: فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْقِيمَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي لَمْ يَحْدُثْ، وَهَذَا نَصُّ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا النَّقْصُ الْحَادِثُ فِي الْبَدَنِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقِيمَةِ حكم الرد بالعيب، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَّا بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ إِذَا أَبَى الْبَائِعُ مِنَ الرَّدِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ، وَيَرُدَّ مِقْدَارَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْأَوَّلِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ وَيَضَعَ عَنْهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرَ الْعَيْبِ، أَوْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيُعْطِيَهُ ثَمَنَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَنَا أَقْبِضُ الْمَبِيعَ، وَتُعْطِي أَنْتَ قِيمَةَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَكَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: بَلْ أَنَا أَمْسِكُ الْمَبِيعَ، وَتُعْطِي أَنْتَ قِيمَةَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ أَوْ يَرُدَّ، وَمَا نَقَصَ عِنْدَهُ. وَشَذَّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يَرُدَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا أَنْ يَرُدَّ، وَيَرُدَّ قِيمَةَ الْعَيْبِ، أَوْ يُمْسِكَ، فَلِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْدُثْ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ إِلَّا الرَّدُّ، فَوَجَبَ اسْتِصْحَابُ حَالِ هَذَا الْحُكْمِ، وَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ مَعَ إِعْطَائِهِ قِيمَةَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا لَهُ قِيمَةُ الْعَيْبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَقِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ وَالْمَوْتِ لِكَوْنِ هَذَا الْأَصْلِ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ عَطَاءٌ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَلَمَّا تَعَارَضَ عِنْدَهُ حَقُّ الْبَائِعِ، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي غَلَّبَ الْمُشْتَرِيَ، وَجَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ، لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَرِّطًا فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْلِمِ الْعَيْبَ، وَيَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي، أَوْ يَكُونُ عَلِمَهُ فَدَلَّسَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّهُ دَلَّسَ بِالْعَيْبِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَيْبِ الَّذِي حَدَثَ عِنْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ كَانَ ضَمَانُهُ عَلَى الْبَائِعِ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ دَلَّسَ فِيهِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ أَبِي مُحَمَّدٍ: فَلِأَنَّهُ أَمْرٌ حَدَثَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا لَوْ حَدَثَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَإِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ فِي الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا فَلَا كِتَابَ وَلَا سُنَّةَ يُوجِبُ عَلَى مُكَلَّفٍ غُرْمَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي نَقْصِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ عِنْدَ مَنْ ضَمِنَ الْغَاصِبَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ فِي الْبَدَنِ.
وَأَمَّا الْعُيُوبُ الَّتِي فِي النَّفْسِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ حكم الرد بالعيب، فَقَدْ قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ إِنَّهَا تُفِيتُ [أَيْ يَفُوتُ بِهَا اسْتِطَاعَةُ الرَّدِّ] الرَّدَّ كَعُيُوبِ الْأَبْدَانِ، وَقِيلَ لَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي إِذَا ارْتَفَعَ بَعْدَ حُدُوثِهِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الرَّدِّ إِلَّا أَنْ لَا تُؤْمَنَ عَاقِبَتُهُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْمُشْتَرِي يَطَأُ الْجَارِيَةَ حكم الرد بالعيب: فَقَالَ قَوْمٌ: إِذَا وَطِئَ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا، أَوْ ثَيِّبًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرُدُّ قِيمَةَ الْوَطْءِ فِي الْبِكْرِ، وَلَا يَرُدُّهَا فِي الثَّيِّبِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ مَهْرَ مِثْلِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلِي. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا رَدَّ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا رَدَّ الْعُشْرَ مِنْ ثَمَنِهَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَيْهِ فِي وَطْءِ الثَّيِّبِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ غَلَّةٌ وَجَبَتْ لَهُ بِالضَّمَانِ.
وَأَمَّا الْبِكْرُ فَهُوَ عَيْبٌ يَثْبُتُ عِنْدَهُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ رَأْيِهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْوَطْءُ مُعْتَبَرٌ فِي الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الرَّقِيقِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي الْقِيمَةِ رَدَّ الْبَائِعُ مَا نَقَصَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ النُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي الْمَبِيعَاتِ.

.[بَابٌ]: [فِي طَرْءِ الزِّيَادَةِ].

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي الْمَبِيعِ حكم الرد بالعيب (أَعْنِي: الْمُتَوَلِّدَةُ الْمُنْفَصِلَةُ مِنْهُ)، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ: إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الرَّدِّ، وَأَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْوَلَدَ فَقَالَ: يَرُدُّ لِلْبَائِعِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إِلَّا الرَّدُّ الزَّائِدُ مَعَ الْأَصْلِ أَوِ الْإِمْسَاكُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الزَّوَائِدُ كُلُّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَتُوجِبُ أَرْشَ الْعَيْبِ إِلَّا الْغَلَّةَ وَالْكَسْبَ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ مَا تَوَلَّدَ عَنِ الْمَبِيعِ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رَدُّهُ وَرَدُّ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ فَوْتًا يَقْتَضِي أَرْشَ الْعَيْبِ إِلَّا مَا نَصَّصَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْخَرَاجِ، وَالْغَلَّةِ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ غَيْرُ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ: فَإِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلَ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَالرَّقْمِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْخِيَارَ فِي الْمَذْهَبِ: إِمَّا الْإِمْسَاكُ، وَالرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، وَإِمَّا فِي الرَّدِّ، وَكَوْنِهِ شَرِيكًا مَعَ الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الزِّيَادَةِ.
وَأَمَّا النَّمَاءُ فِي الْبَدَنِ مِثْلُ السِّمَنِ: فَقَدْ قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ، وَكَذَلِكَ النَّقْصُ الَّذِي هُوَ الْهُزَالُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ التَّغْيِيرِ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْقَضَاءِ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ:

وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ: فَإِنَّهُ إِذَا تَقَارَّ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا وَجَبَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ دَعْوَى الْقَائِمِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الْعَيْبِ، أَوْ يُنْكِرَ حُدُوثَهُ عِنْدَهُ. فَإِنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ: فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَسْتَوِي فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ النَّاسِ كَفَى فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ مِمَّنِ اتَّفَقَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِعِلْمِهِ أَهْلُ صِنَاعَةٍ مَا، شَهِدَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، فَقِيلَ فِي الْمَذْهَبِ عَدْلَانِ. وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَلَا الْعَدَدُ وَلَا الْإِسْلَامُ. وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْقِيمَةِ، وَفِي كَوْنِهِ أَيْضًا قَبْلَ أَمَدِ التَّبَايُعِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْبَائِعُ أَنَّهُ مَا حَدَثَ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ بِالْمَبِيعِ لَمْ يَجِبْ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْبَائِعِ.
وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ الْأَرْشُ: فَوْجُهُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ الشَّيْءُ سَلِيمًا، وَيُقَوَّمَ مَعِيبًا، وَيَرُدَّ الْمُشْتَرِي مَا بَيْنَ ذَلِكَ. فَإِنْ وَجَبَ الْخِيَارُ: قُوِّمَ ثَلَاثَ تَقْوِيمَاتٍ: تَقْوِيمٌ وَهُوَ سَلِيمٌ، وَتَقْوِيمٌ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَتَقْوِيمٌ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَرُدُّ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا قُدِّرَ مِنْهُ قَدْرَ مَا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ الْمَعِيبَةُ عَنِ الْقِيمَةِ السَّلِيمَةِ، وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ وَأَحَبَّ الْإِمْسَاكَ رَدَّ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَعِيبَةِ عِنْدَهُ.

.الْبَابُ الثَّانِي: فِي بَيْعِ الْبَرَاءَةِ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْتِزَامَ كُلِّ عَيْبٍ يَجِدُهُ فِي الْمَبِيعِ عَلَى الْعُمُومِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ الْبَائِعُ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ، سَمَّاهُ أَوْ لَمْ يُسَمِّهِ، أَبْصَرَهُ أَوْ لَمْ يُبْصِرْهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ (وَهُوَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ): لَا يَبْرَأُ الْبَائِعُ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ يُرِيهِ لِلْمُشْتَرِي، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَالْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّ الْبَرَاءَةَ جَائِزَةٌ مِمَّا يَعْلَمُ الْبَائِعُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً، إِلَّا الْبَرَاءَةَ مِنَ الْحَمْلِ فِي الْجَوَارِي الرَّائِعَاتِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ لِعِظَمِ الْغَرَرِ فِيهِ، وَيَجُوزُ فِي الْوَخْشِ. وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ بَيْعَ الْبَرَاءَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ مِنَ السُّلْطَانِ فَقَطْ، وَقِيلَ فِي بَيْعِ السُّلْطَانِ وَبَيْعِ الْمَوَارِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطُوا الْبَرَاءَةَ. وَحُجَّةُ مَنْ رَأَى الْقَوْلَ بِالْبَرَاءَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: أَنَّ الْقِيَامَ بِالْعَيْبِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْبَائِعِ، فَإِذَا أُسْقِطَهُ سَقَطَ أَصْلُهُ وَسَائِرُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْبَائِعُ، وَمِنْ بَابِ الْغَبْنِ، وَالْغِشِّ فِيمَا عَلِمَهُ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ جَهْلَ الْبَائِعِ مَالِكٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَعُمْدَةُ مَالِكٍ مَا رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلَامًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلَامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ لِي، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَضَى عُثْمَانُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ لَقَدْ بَاعَ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يُجِيزُ بَيْعَ الْبَرَاءَةِ. وَإِنَّمَا خَصَّ مَالِكٌ بِذَلِكَ الرَّقِيقَ لِكَوْنِ عُيُوبِهِمْ فِي الْأَكْثَرِ خَافِيَةً. وَبِالْجُمْلَةِ: خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِي، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا كَاخْتِلَافِ الْمَبِيعَاتِ فِي صِفَاتِهَا وَجَبَ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْجَهْلِ بِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ أَصْلُهُ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى جَهْلِ صِفَةِ الْمَبِيعِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الثَّمَنِ، وَلِذَلِكَ حَكَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ آخِرَ قَوْلِهِ كَانَ إِنْكَارَ بَيْعِ الْبَرَاءَةِ إِلَّا مَا خَفَّفَ فِيهِ السُّلْطَانُ، وَفِي قَضَاءِ الدُّيُونِ خَاصَّةً. وَذَهَبَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا كَانَ مِنَ الْعُيُوبِ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهَا ثُلُثَ الْمَبِيعِ. وَالْبَرَاءَةُ بِالْجُمْلَةِ: إِنَّمَا تَلْزَمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالشَّرْطِ (أَعْنِي: إِذَا اشْتَرَطَهَا) إِلَّا بَيْعَ السُّلْطَانِ وَالْمَوَارِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ فَقَطْ. فَالْكَلَامُ بِالْجُمْلَةِ فِي بَيْعِ الْبَرَاءَةِ هُوَ فِي جَوَازِهِ وَفِي شَرْطِ جَوَازِهِ، وَفِيمَا يَجُوزُ مِنَ الْعُقُودِ وَالْمَبِيعَاتِ وَالْعُيُوبِ، وَلِمَنْ يَجُوزُ بِالشَّرْطِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَهَذِهِ كُلُّهَا قَدْ تَقَدَّمَتْ بِالْقُوَّةِ فِي قَوْلِنَا فَاعْلَمْهُ.

.الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وَقْتِ ضَمَانِ الْمَبِيعَاتِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ فِيهِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَنَّى تَكُونُ خَسَارَتُهُ إِنْ هَلَكَ مِنْهُ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَهُ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَاتِ عِنْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: بَيْعٌ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ وَزْنٍ، أَوْ كَيْلٍ، وَعَدَدٍ. وَبَيْعٌ لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَهُوَ الْجُزَافُ، أَوْ مَا لَا يُوزَنُ، وَلَا يُكَالُ، وَلَا يُعَدُّ. فَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ فَلَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ ضَمَانَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
وَأَمَّا الْمَبِيعُ الْغَائِبُ وقت ضمانه: فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
أَشْهَرُهَا: أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ الْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ عَلَى الْمُبْتَاعِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مِنَ الْمُبْتَاعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ عَلَى الْبَائِعِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَأْمُونِ الْبَقَاءِ إِلَى وَقْتِ الِاقْتِضَاءِ كَالْحَيَوَانِ وَالْمَأْكُولَاتِ، وَبَيْنَ مَا هُوَ مَأْمُونُ الْبَقَاءِ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ هَلْ عَلَى الْقَبْضِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ، أَوْ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَازِمٌ دُونَ الْقَبْضِ؟
فَمَنْ قَالَ الْقَبْضَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ في البيع، أَوْ لُزُومِهِ، أَوْ كَيْفَمَا شِئْتَ أَنْ تُعَبِّرَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الضَّمَانُ عِنْدَهُ مِنَ الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي. وَمَنْ قَالَ: هُوَ حُكْمٌ لَازِمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَبِيعِ، وَالْبَيْعِ وَقَدِ انْعَقَدَ، وَلَزِمَ قَالَ: الْعَقْدُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَتَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، وَالَّذِي فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَالَّذِي لَيْسَ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةِ اسْتِحْسَانٍ، وَمَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ هُوَ الْتِفَاتٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْعَدْلِ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ بِالْعَقْدِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَفِيمَا أَحْسَبُ، وَعُمْدَةُ مَنْ رَأَى ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ». وَعُمْدَةُ الْمُخَالِفِ: حَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ قَالَ لَهُ: «انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَرِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا». وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي شَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ فِيمَا سَلَفَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ إِلَّا فِي الْعُهْدَةِ، وَالْجَوَائِحِ. وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا الْعُهْدَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ نَذْكُرَ هَاهُنَا الْجَوَائِحَ. الْقَوْلُ فِي الْجَوَائِحِ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ: فَقَالَ بِالْقَضَاءِ بِهَا مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَمَنَعَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَاللَّيْثُ. فَعُمْدَةُ مَنْ قَالَ بِوَضْعِهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَاعَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا، عَلَى مَاذَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟
»
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ». فَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الْجَوَائِحَ: حَدِيثَا جَابِرٍ هَذَانِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَبِيعٌ بَقِيَ عَلَى الْبَائِعِ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، بِدَلِيلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ سَقْيِهِ إِلَى أَنْ يُكْمِلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ مِنْهُ أَصْلُهُ سَائِرُ الْمَبِيعَاتِ الَّتِي بَقِيَ فِيهَا حُقُّ تَوْفِيَةٍ، وَالْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْمَبِيعِ، وَبَيْنَ سَائِرِ الْبُيُوعِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ، وَالْمَبِيعُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي ضَمَانِهِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْقَضَاءِ بِهَا: فَتَشْبِيهُ هَذَا الْبَيْعِ بِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ وَأَنَّ التَّخْلِيَةَ فِي هَذَا الْمَبِيعِ هُوَ الْقَبْضُ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعَاتِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنَ الْمُشْتَرِي. وَمِنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أُجِيحَ رَجُلٌ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا وَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ»، قَالُوا: فَلَمْ يَحْكُمْ بِالْجَائِحَةِ.
فَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ تَعَارُضُ الْآثَارِ فِيهِمَا وَتَعَارُضُ مَقَايِيسِ الشَّبَهِ، وَقَدْ رَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَرْفَ الْحَدِيثِ الْمُعَارِضِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ بِالتَّأْوِيلِ: فَقَالَ مَنْ مَنَعَ الْجَائِحَةَ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِهَا إِنَّمَا وَرَدَ مِنْ قِبَلِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، قَالُوا: وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ شَكْوَاهُمْ بِالْجَوَائِحِ أَمَرُوا أَنْ لَا يَبِيعُوا الثَّمَرَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْمَشْهُورِ. وَقَالَ مَنْ أَجَازَهَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ عَدِيمًا، فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِجَائِحَةٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ الَّذِي أُصِيبَ مِنَ الثَّمَرِ مِقْدَارًا لَا يَلْزَمُ فِيهِ جَائِحَةٌ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أُصِيبَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْجَائِحَةُ، مِثْلُ أَنْ يُصَابَ بَعْدَ الْجِذَاذِ أَوْ بَعْدَ الطِّيبِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَرَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَكَانَ يُضَعِّفُهُ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ اضْطَرَبَ فِي ذِكْرِ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ وَجَبَ وَضْعُهَا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ بِالْجَائِحَةِ بِالْعَطَشِ، وَقَدْ جَعَلَ الْقَائِلُونَ بِهَا اتِّفَاقَهُمْ فِي هَذَا حُجَّةً عَلَى إِثْبَاتِهَا. وَالْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْجَوَائِحِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ يَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
الْأَوَّلُ: فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْفَاعِلَةِ لِلْجَوَائِحِ.
الثَّانِي: فِي مَحِلِّ الْجَوَائِحِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ.
الثَّالِثُ: فِي مِقْدَارِ مَا يُوضَعُ مِنْهُ فِيهِ.
الرَّابِعُ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُوضَعُ فِيهِ.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْفَاعِلَةِ لِلْجَوَائِحِ:

وَأَمَّا مَا أَصَابَ الثَّمَرَةَ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلُ الْبَرْدِ، وَالْقَحْطِ، وَضِدِّهِ وَالْعَفَنِ: فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ جَائِحَةٌ.
وَأَمَّا الْعَطَشُ كَمَا قُلْنَا فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ جَائِحَةٌ.
وَأَمَّا مَا أَصَابَ مِنْ صُنْعِ الْآدَمِيِّينَ فَبَعْضٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَآهُ جَائِحَةً، وَبَعْضٌ لَمْ يَرَهُ جَائِحَةً. وَالَّذِينَ رَأَوْهُ جَائِحَةً انْقَسَمُوا إِلَى قِسْمَيْنِ: فَبَعْضُهُمْ رَأَى مِنْهُ جَائِحَةً مَا كَانَ غَالِبًا كَالْجَيْشِ وَلَمْ يَرَ مَا كَانَ مِنْهُ بِمُغَافَصَةٍ جَائِحَةً (مُغَافَصَةٍ: أَخَذَهُ عَلَى غِرَّةٍ) مِثْلَ السَّرِقَةِ. وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ كُلَّ مَا يُصِيبُ الثَّمَرَةَ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّينَ جَائِحَةً بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ. فَمَنْ جَعَلَهَا فِي الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ فَقَطِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنْعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ؟
»
. وَمَنْ جَعَلَهَا فِي أَفْعَالِ الْآدَمِيِّينَ شَبَّهَهَا بِالْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ، وَمَنِ اسْتَثْنَى اللِّصَّ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَفَّظَ مِنْهُ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَحِلِّ الْجَوَائِحِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ:

وَمَحِلُّ الْجَوَائِحِ هِيَ الثِّمَارُ، وَالْبُقُولُ: فَأَمَّا الثِّمَارُ: فَلَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا الْبُقُولُ: فَفِيهَا خِلَافٌ، وَالْأَشْهَرُ فِيهَا الْجَائِحَةُ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْبُقُولِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَشْبِيهِهَا بِالْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الثَّمَرُ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مِقْدَارِ مَا يُوضَعُ مِنْهُ فِيهِ:

وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْجَائِحَةُ: أَمَّا فِي الثِّمَارِ: فَالثُّلُثُ، وَأَمَّا فِي الْبُقُولِ: فَقِيلَ: فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقِيلَ: فِي الثُّلُثِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ يَعْتَبِرُ ثُلُثَ الثَّمَرِ بِالْكَيْلِ، وَأَشْهَبُ يَعْتَبِرُ الثُّلُثَ فِي الْقِيمَةِ، فَإِذَا ذَهَبَ مِنَ الثَّمَرِ عِنْدَ أَشْهَبَ مَا قِيمَتُهُ الثُّلْثُ مِنَ الْكَيْلِ وَضَعَ عَنْهُ الثُّلُثَ مِنَ الثَّمَنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ثُلُثًا فِي الْكَيْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ مِنَ الثَّمَرِ الثُّلُثُ مِنَ الْكَيْلِ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا لَيْسَ تَخْتَلِفُ قِيمَةُ بُطُونِهِ حَطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ الثُّلُثَ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ، أَوْ كَانَ بُطُونًا مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ أَيْضًا اعْتَبَرَ قِيمَةَ ذَلِكَ الثُّلُثَ الذَّاهِبَ مِنْ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، فَمَا كَانَ قَدْرَهُ حَطَّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الثَّمَنِ، فَفِي مَوْضِعٍ يَعْتَبِرُ الْمَكِيلَةَ فَقَطْ، حَيْثُ تَسْتَوِي الْقِيمَةُ فِي أَجْزَاءِ الثَّمَرَةِ وَبُطُونِهَا وَفِي مَوْضِعٍ يَعْتَبِرُ أَمْرَيْنِ جَمِيعًا حَيْثُ تَخْتَلِفُ الْقِيمَةُ. وَالْمَالِكِيَّةُ يَحْتَجُّونَ فِي مَصِيرِهِمْ إِلَى التَّقْدِيرِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا مُطْلَقًا بِأَنَّ الْقَلِيلَ فِي هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ حُكْمِ الْعَادَةِ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْكَثِيرَ، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْقَلِيلَ يَذْهَبُ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَلَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِالْعَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالنُّطْقِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَائِحَةَ الَّتِي عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهَا تَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. قَالُوا: وَإِذَا وَجَبَ الْفَرْقُ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الثُّلُثُ، إِذْ قَدِ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ يَضْطَرِبُ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمَرَّةً يَجْعَلُ الثُّلُثَ مِنْ حَيِّزِ الْكَثِيرِ كَجَعْلِهِ إِيَّاهُ هَاهُنَا، وَمَرَّةً يَجْعَلُهُ فِي حَيِّزِ الْقَلِيلِ وَلَمْ يَضْطَرِبْ فِي أَنَّهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْمُقَدَّرَاتُ يَعْسُرُ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ قُلْتُ بِالْجَائِحَةِ لَقُلْتُ فِيهَا بِالْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَكَوْنُ الثُّلُثِ فَرْقًا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ هُوَ نَصٌّ فِي الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلْثُ كَثِيرٌ».